معاناة الأمهات- النفقة حق، لا منّة.. وكرامة أطفال في مهب الريح
المؤلف: وفاء الرشيد09.23.2025

في أروقة محاكم الأحوال الشخصية، حيث يتردد صدى أصوات القضاة والمحامين، تكمن معاناة خفية تعكسها نظرات الأمهات السعوديات، اللاتي لا يرجون سوى تحقيق العدالة وضمان حياة كريمة لأبنائهن... إن المسألة تتجاوز بعدها المادي لتصل إلى صميم الكرامة الإنسانية، ومسؤولية عظيمة تستدعي التفعيل والتنفيذ العاجل.
تشير إحصائيات وزارة العدل السعودية لعام 2023 إلى تسجيل ما يزيد على 30,000 دعوى قضائية تتعلق بالنفقة، غالبيتها العظمى مقدمة من قبل سيدات يطالبن بحقوق أولادهن الأساسية في أعقاب الطلاق أو الانفصال، وعلى الرغم من التزايد المستمر في هذه الأرقام، يُظهر الواقع المرير أن أحكام النفقة في العديد من الحالات تتراوح بين 250 و 3500 ريال سعودي للطفل الواحد (حتى وإن كان الأب من أصحاب الثروات الطائلة)! وغالباً ما يُحكم بمبلغ زهيد لا يتجاوز 500 ريال شهرياً للطفل الواحد، وذلك بالرغم من الارتفاع المطرد في تكاليف المعيشة ومتطلبات الحياة الأساسية.
وفي إحدى القضايا المأساوية، صدر حكم لصالح أم حاضنة لأربعة أطفال بمبلغ هزيل قدره 800 ريال سعودي شهرياً فقط؛ أي ما يعادل 200 ريال لكل طفل قاصر (والقاصر هنا هو من لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره) رغم أن الأب يتقاضى راتباً حكومياً يفوق 10,000 ريال. وفي قضية أخرى، قوبل طلب زيادة النفقة بالرفض القاطع رغم تقديم تقارير طبية وتربوية تؤكد الحاجة الملحة للزيادة... كما لو كان الطفل يعاني من اضطراب التوحد أو مرض مزمن يستدعي عناية خاصة ومصاريف إضافية باهظة...
للأسف الشديد، لا تزال النفقة تُحسب بناءً على دخل الأب الشهري فقط، دون الأخذ في الاعتبار حجم ثروته وممتلكاته الأخرى...
تتصور العديد من السيدات أن صدور الحكم هو نهاية المطاف، لكن الحقيقة المرة هي أن المعاناة الحقيقية تبدأ بعد ذلك، حيث يلجأ بعض الأزواج إلى التهرب والتأخير المتعمد في دفع النفقة، بل ويتمادون في إذلال الأم انتقاماً منها لقرارها بالانفصال في يوم من الأيام... ولا أعرف أماً اضطرت إلى مغادرة منزل الزوجية برفقة أطفالها نحو المجهول إلا بسبب ظروف قاهرة وقرارات مصيرية، لتجد نفسها بعد ذلك مرغمة على التردد على المحاكم، ومتابعة المعاملات عبر منصة «ناجز»، وتقديم شكاوى جديدة، والانتظار شهوراً طويلة لتحصيل مبلغ ضئيل لا يكفي لتغطية احتياجات شهر واحد من شهور السنة!!
على الرغم من أن نظام الأحوال الشخصية في المملكة العربية السعودية ينص صراحة على مراعاة دخل المعيل وعدد المستحقين عند تحديد مقدار النفقة، إلا أن غياب آلية واضحة وموحدة لتقدير الحد الأدنى المقبول للنفقة يجعل الأحكام الصادرة خاضعة للاجتهادات الشخصية التي تختلف من دائرة قضائية إلى أخرى، وغالباً ما تتجاهل هذه الاجتهادات الواقع الفعلي للأسعار والتضخم الاقتصادي، وظروف الأطفال المتغيرة، والتطورات التي تشهدها البلاد من ارتفاع جنوني في أسعار الإيجارات والمواد الغذائية وتطبيق ضريبة القيمة المضافة.
وبالرغم من كل ما ذُكر، لا يمكن بحال من الأحوال إنكار الجهود الحثيثة التي تبذلها الدولة الرشيدة لحماية حقوق المرأة والطفل، ومن أبرز هذه الجهود:
• إنشاء صندوق النفقة: وهي خطوة مباركة تهدف إلى توفير الدعم المالي الفوري للمستحقين، إلا أنه لا يتم تفعيل هذا الصندوق تلقائياً في جميع الحالات.
• نظام إيقاف الخدمات عن الممتنعين عن دفع النفقة، وعلى الرغم من فعاليته في ردع المماطلين، إلا أن تنفيذه قد يستغرق وقتاً طويلاً في بعض الحالات.
• توفير الخدمات الإلكترونية عبر منصة «ناجز»: والتي ساهمت في تبسيط الإجراءات، إلا أنها لم تعالج جوهر المشكلة الأساسية: وهي تقدير النفقة على نحو يتناسب مع الواقع المعيشي الحقيقي للأسر.
في كل مرة تلجأ فيها امرأة إلى قاعة المحكمة للمطالبة بالنفقة، فإنها لا تدافع عن حقها الشخصي فحسب، بل عن حاضر ومستقبل أبنائها وعن كرامة جيل قادم بأكمله.. ولكنها غالباً ما تصطدم بنظرة مجتمعية قاسية تلقي عليها بتبعات الفشل وتحميلها مسؤولية المطالبة بحق شرعي وقانوني، وكأنها تبالغ في مطالبها أو تساوم على حقوقها أو حتى تسعى إلى استغلال الزوج مادياً وجشعاً.
النفقة ليست منحة أو صدقة من الزوج، بل هي واجب شرعي والتزام قانوني راسخ وحق أصيل لكل مواطنة... والطفل الذي يُحرم من الحصول على الغذاء الكافي والتعليم المناسب والرعاية الصحية اللازمة لن يتعلم سوى معنى الحرمان والخذلان، وسينشأ على حساب توازنه النفسي والاجتماعي وقدرته على الاندماج في المجتمع.
إننا اليوم بأمس الحاجة إلى مراجعة شاملة وجادة لآليات تقدير النفقة وتنفيذها، لأن العدالة لا تتحقق بمجرد إصدار الأحكام، بل يجب أن يصل الحق إلى أصحابه بكرامة وعزة تليق بمكانة هذا الوطن المعطاء... دون الحاجة إلى ذرف الدموع والاستجداء وكسر الخواطر.
تشير إحصائيات وزارة العدل السعودية لعام 2023 إلى تسجيل ما يزيد على 30,000 دعوى قضائية تتعلق بالنفقة، غالبيتها العظمى مقدمة من قبل سيدات يطالبن بحقوق أولادهن الأساسية في أعقاب الطلاق أو الانفصال، وعلى الرغم من التزايد المستمر في هذه الأرقام، يُظهر الواقع المرير أن أحكام النفقة في العديد من الحالات تتراوح بين 250 و 3500 ريال سعودي للطفل الواحد (حتى وإن كان الأب من أصحاب الثروات الطائلة)! وغالباً ما يُحكم بمبلغ زهيد لا يتجاوز 500 ريال شهرياً للطفل الواحد، وذلك بالرغم من الارتفاع المطرد في تكاليف المعيشة ومتطلبات الحياة الأساسية.
وفي إحدى القضايا المأساوية، صدر حكم لصالح أم حاضنة لأربعة أطفال بمبلغ هزيل قدره 800 ريال سعودي شهرياً فقط؛ أي ما يعادل 200 ريال لكل طفل قاصر (والقاصر هنا هو من لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره) رغم أن الأب يتقاضى راتباً حكومياً يفوق 10,000 ريال. وفي قضية أخرى، قوبل طلب زيادة النفقة بالرفض القاطع رغم تقديم تقارير طبية وتربوية تؤكد الحاجة الملحة للزيادة... كما لو كان الطفل يعاني من اضطراب التوحد أو مرض مزمن يستدعي عناية خاصة ومصاريف إضافية باهظة...
للأسف الشديد، لا تزال النفقة تُحسب بناءً على دخل الأب الشهري فقط، دون الأخذ في الاعتبار حجم ثروته وممتلكاته الأخرى...
تتصور العديد من السيدات أن صدور الحكم هو نهاية المطاف، لكن الحقيقة المرة هي أن المعاناة الحقيقية تبدأ بعد ذلك، حيث يلجأ بعض الأزواج إلى التهرب والتأخير المتعمد في دفع النفقة، بل ويتمادون في إذلال الأم انتقاماً منها لقرارها بالانفصال في يوم من الأيام... ولا أعرف أماً اضطرت إلى مغادرة منزل الزوجية برفقة أطفالها نحو المجهول إلا بسبب ظروف قاهرة وقرارات مصيرية، لتجد نفسها بعد ذلك مرغمة على التردد على المحاكم، ومتابعة المعاملات عبر منصة «ناجز»، وتقديم شكاوى جديدة، والانتظار شهوراً طويلة لتحصيل مبلغ ضئيل لا يكفي لتغطية احتياجات شهر واحد من شهور السنة!!
على الرغم من أن نظام الأحوال الشخصية في المملكة العربية السعودية ينص صراحة على مراعاة دخل المعيل وعدد المستحقين عند تحديد مقدار النفقة، إلا أن غياب آلية واضحة وموحدة لتقدير الحد الأدنى المقبول للنفقة يجعل الأحكام الصادرة خاضعة للاجتهادات الشخصية التي تختلف من دائرة قضائية إلى أخرى، وغالباً ما تتجاهل هذه الاجتهادات الواقع الفعلي للأسعار والتضخم الاقتصادي، وظروف الأطفال المتغيرة، والتطورات التي تشهدها البلاد من ارتفاع جنوني في أسعار الإيجارات والمواد الغذائية وتطبيق ضريبة القيمة المضافة.
وبالرغم من كل ما ذُكر، لا يمكن بحال من الأحوال إنكار الجهود الحثيثة التي تبذلها الدولة الرشيدة لحماية حقوق المرأة والطفل، ومن أبرز هذه الجهود:
• إنشاء صندوق النفقة: وهي خطوة مباركة تهدف إلى توفير الدعم المالي الفوري للمستحقين، إلا أنه لا يتم تفعيل هذا الصندوق تلقائياً في جميع الحالات.
• نظام إيقاف الخدمات عن الممتنعين عن دفع النفقة، وعلى الرغم من فعاليته في ردع المماطلين، إلا أن تنفيذه قد يستغرق وقتاً طويلاً في بعض الحالات.
• توفير الخدمات الإلكترونية عبر منصة «ناجز»: والتي ساهمت في تبسيط الإجراءات، إلا أنها لم تعالج جوهر المشكلة الأساسية: وهي تقدير النفقة على نحو يتناسب مع الواقع المعيشي الحقيقي للأسر.
في كل مرة تلجأ فيها امرأة إلى قاعة المحكمة للمطالبة بالنفقة، فإنها لا تدافع عن حقها الشخصي فحسب، بل عن حاضر ومستقبل أبنائها وعن كرامة جيل قادم بأكمله.. ولكنها غالباً ما تصطدم بنظرة مجتمعية قاسية تلقي عليها بتبعات الفشل وتحميلها مسؤولية المطالبة بحق شرعي وقانوني، وكأنها تبالغ في مطالبها أو تساوم على حقوقها أو حتى تسعى إلى استغلال الزوج مادياً وجشعاً.
النفقة ليست منحة أو صدقة من الزوج، بل هي واجب شرعي والتزام قانوني راسخ وحق أصيل لكل مواطنة... والطفل الذي يُحرم من الحصول على الغذاء الكافي والتعليم المناسب والرعاية الصحية اللازمة لن يتعلم سوى معنى الحرمان والخذلان، وسينشأ على حساب توازنه النفسي والاجتماعي وقدرته على الاندماج في المجتمع.
إننا اليوم بأمس الحاجة إلى مراجعة شاملة وجادة لآليات تقدير النفقة وتنفيذها، لأن العدالة لا تتحقق بمجرد إصدار الأحكام، بل يجب أن يصل الحق إلى أصحابه بكرامة وعزة تليق بمكانة هذا الوطن المعطاء... دون الحاجة إلى ذرف الدموع والاستجداء وكسر الخواطر.